أصحاب الأخدود
رفاعي سرور
مقدمة الطبعة الخامسة
سورة البروج..
المقروءة...آيات ميسرة في تهجد محنة وبلاء.
والمسموعة...صوت أنفاس أخيرة في حياة الشهداء.
والمكتوبة...خدش أظافر مستضعفة في حائط سجن لتكون أفقًا وسماءً.
والمروية.. قصة تبيان عن النبي صلى الله عليه وسلم..
أصحاب الأخدود.
وقف لازم في قراءة تاريخية للدعوة.
ودرس تام في منهجها..
وتجربة كاملة في واقعها..
وهذا هو الطريق..
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
هذه القصة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكل من يروى حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يكون من الرواة المتخصصين في الرواية مثل أبى هريرة وابن عباس، وإما أن يكون صحابيًا غير متخصص دفعه إلى الرواية إما ارتباط الأحكام التي يتضمنها الحديث بمعيشته مثل عدي بن حاتم الذي روى أحاديث الصيد لأنه كان صيادًا، وإما أن يكون الدافع في الرواية هو عمق التأثر بمعاني الحديث، وراوي هذا الحديث ممن دفعهم عمق التأثر بالمعنى، وهو صهيب الرومي الذي كان مستضعفًا في مكة وأراد أن يهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يتمكن فحاول الفرار بعد الهجرة فعلم المشركون بخبره فتعقبوه فلما اقتربوا منه قالوا له: جئتنا فقيرًا فاغتنيت عندنا فهل تريد أن تذهب بهذا المال إلى محمد؟ فقال لهم: إذا أخبرتكم عن مكان المال تتركوني؟ قالوا: نعم، فدلهم على مكان المال، فتركوه، فذهب إلى رسول الله وأخبره فقال له:"ربح البيع، ربح البيع"[1].
وفيه نزل قول الله تعالى: {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد} [البقرة 207].
وقد روى خباب بن الأرت جزءًا من هذا الحديث عن رسول الله وهو الذي ذكر فيه العذاب الذي تعرض لـه أصحاب الدعوة والشق بالمناشير كما سيجيء في القصة، ويكفي لمعرفة خباب أن يكون هو الناطق برجاء كل المستضعفين حيث يقول: « أتيت النبي وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت ألا تدعو الله لنا؟ ».. وفي رواية « ألا تستنصر لنا »[2].
كما يكفي لمعرفة خباب أن يكون آخذ سورة الشعراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
روى الإمام أحمد عن معدي كرب قال : (أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال: ما هي معي، ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: خباب بن الأرت. قال: فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا رضي الله عنه).[3]
وفي صحيح الترمذي ملاحظة هامة في رواية هذا الحديث وهي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر مع هذا الحديث حديثًا آخر عن صهيب قال: كان رسول الله، إذا صلى العصر همس - والهمس في قول بعضهم: تحرك شفتيه كأنه يتكلم – فقيل له: إنك يارسول الله إذا صليت العصر همست. قال: إن نبيًا من الأنبياء كان أعجب بأمته فقال: من يقوم لهؤلاء، فأوحى الله إليه أن خيِّرهم بين: أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدواً لهم؟ فاختاروا النقمة فسلط عليهم الموت فمات منهم في يوم سبعون ألفًا.
قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث الآخر عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كان ملك... » وبذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذين الحديثين معًا ودائمًا.. يتحقق بُعدان أساسيان لقضية واحدة وهي قضية العلاقة بين العدد والفاعلية القدرية للعدد.
· حيث يمثل الحديث الأول بُعد الكثرة الفاقدة لفاعليتها بالعجب بهذه الكثرة وهو مضمون الحديث الأول.
· والقلة المحققة لفاعليتها بتجردها من حولها وقوَّتها إلى حول الله وقوَّته وهو مضمون هذا الحديث حيث لم يتجاوز أصحاب الدعوة فيه ثلاثة أفراد (الراهب والغلام والجليس).
· يتمم هذا البُعد ما ورد عن القصة في القرآن حيث جاء قول المفسرين في قول الله تعالى: {وشاهدٍ ومشهود}، أن {وشاهد} هو يوم عرفة، و{مشهود} هو يوم الجمعة. وكلاهما يمثلان الكثرة المحققة لفاعليتها بعبوديتها وتواضعها.
·
ولعلنا ننتبه إلى أن هذه الملاحظة الهامة - ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الذي أعجب بأمته وحديث (كان ملك..) _ واردة عن صهيب أيضًا.
إنه حديث المستضعفين.. ودرس الذين عاشوا الدعوة في أيام الآلام والعذاب.
وهذه هي القيمة الأساسية للقصة.
يتبعها أن القصة تجربة كاملة للدعوة: ففي أحداثها كل مراحل العمل وأساليبه من بداية الدعوة الفردية إلى مرحلة الإيمان الجماعي، متضمنة النقلة المرحلية الأساسية للدعوة من السرية إلى العلنية.
كما أن أحداثها تحقيق مباشر لقدر الله مما يجعل هذه القصة مجال بحث دقيق لتحديد منهج الدعوة بتصور القدر والأسباب ليصبح هذا المنهج قادرًا على تحقيق الواقع الإسلامي الذي نسعى إليه.
رفاعي سرور
نص الحديث
عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
« كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان لـه ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر، فبعث إليه غلامَا يعلمه. فكان في طريقه، إذا سلك، راهبٌ فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه. فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه.. فشكى ذلك إلى الراهب. فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة. قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم: الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها. ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال لـه الراهب: أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلَّ عليَّ. وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال إني لا أشفي أحداً. إنما يشفي الله (تعالى) فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك.فآمن بالله تعالى فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال لـه الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام. فجيء بالغلام فقال لـه الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل؟.. قال: إني لا أشفي أحداً. إنما يشفي الله (تعالى) فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل لـه: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه. ثم جيء بالغلام فقيل لـه : ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته. فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل. فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال لـه الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله (تعالى) فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال لـه الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله (تعالى). فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به! فقال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل: بسم الله رب الغلام. ثم ارمني. فإنك إن فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع. ثم أخذ سهماً من كنانته. ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام ثلاثاً فأُتيَ الملك فقيل لـه: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد، والله! وقع بك حذرك. قد آمن الناس فأمر بالأخاديد في أفواه السكك فَخُدَّت وأُضرم (فيها) النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل لـه: اقتحم.. ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: ياأمه! اصبري فإنك على الحق »[4]. (رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي).
« كان ملك فيمن كان قبلكم وكان لـه ساحر » وهذه هي بداية القصة، وهذا هو التحديد التاريخي لأحداثها دون ذكر للزمان والمكان لتتجرد معاني تلك الأحداث وتصبح مجردة ومطلقة فيمكن- اعتناقها والاستفادة بها بغير الارتباط أو التعلق بظروفها وملابساتها.
فكان تجريد أحداث هذه القصة هو الأساس التسجيلي لها لأنها أتت بعد ذلك إثباتاً تاريخياً موجهاً نحو تحقيق قيمتها كتجربة قائمة إلى نهاية الزمان وإلى اليوم الموعود.
ولهذا جاء كل التحديد التاريخي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فيمن كان قبلكم ) يريد فيما مضى ولكنه يربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده فيقول: (قبلكم) وبذلك أضيفت أحداث هذه القصة.. بعد تجريدها إلى واقع الدعوة القائم الآن. حيث أن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ بدايتها مع بداية الزمان. وهذا هو المعنى الأول المأخوذ من تلك البداية.
والمعنى الثاني: هو أن هذه البداية حددت باللفظة الأولى (كان ملك..) طبيعة هذه الدعوة فكان أول ما وضح منها هو ضرورة المواجهة- منذ البداية - بين واقع الدعوة والسلطة الكافرة التى تسيطر على واقع الناس المراد تحقيق غاية الدعوة فيهم.
ولقد برزت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق والحكم الباطل بصورة واضحة جداً في دعوة موسى إذ قال سبحانه له: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [النازعات:17].
ذلك أن الرسالة لم تكن أصلاً إلى فرعون لأن موسى كان مرسلاً إلى بني إسرائيل وكان كل ما يريده هو الخروج ببني إسرائيل من مصر: {فأرسل معى بنى إسرائيل}.[5]
ورغم هذا فإن المواجهة كانت مع فرعون باعتباره مسيطراً على واقع الناس الذين كانت الرسالة إليهم.
وكانت مواجهة عقيدية مرتبطة بتصور الدعوة ومنهجها مؤكدة كل حقائق الرسالة وقضاياها وبهذا يكون موسى قد بدأ بدعوته إلى بني إسرائيل البداية الطبيعية عندما واجه فرعون وملأه.
وبذلك نفهم أن العداء بين الدعاة إلى الحق وبين حكام الباطل أمر بدهي مفروض من البداية وبمجرد التفكير في غاية الدعوة والنظر إلى واقع الناس.
وعلى هذا فإن أي دعوة إلى الحق - تظهر في الواقع الباطل توجيهاً نظرياً أو فكرياً مجرداً لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه ستكون قتيلة بسنن الوجود وتُلفظ من واقع الناس.. كالجنين الذي يلفظه الرحم وهو غير مخلَّق. فالدعوة إلى جميع الناس.. حاكمين ومحكومين لأن الدعوة دعوة للحق فلو كانت للمحكومين دون الحاكمين لأصبحت فكراً خاضعاً لمن يحكم بالباطل ولو كانت للحاكمين دون المحكومين لأصبحت وسيلة من وسائل هذا الحكم الباطل.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً في بداية الدعوة على إعلانها على الملأ والجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس فكان يبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو لا يزال في مرحلـة الاستضعاف تأكيداً لأبعاد الدعوة من البداية ودون اعتبار للإمكانيات أو مراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء الملوك.
فمن الملوك من كان يفهم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هرقل الذي وصلت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الإسلام فناقش أبا سفيان الذي كان حاضراً في بلاد الروم عندما أراد هرقل بحث أمر الرسالة. وتم حوار رائع حول الدعوة بين هرقل وأبي سفيان انتهى بقول هرقل: ( والله لو كان كما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين ولو كنت أعلم أني أخلص إليه لتجشمت - تمنيت - لقائه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)[6] ثم يواصل تأكيد فهمه لطبيعة الدعوة الصحيحة فيوجه نصحه إلى الروم قائلاً: يامعشر الروم، هل لكم في أن يثبت ملكم فتبايعوا هذا النبي؟
ومن الملوك من كان لايفهم قصد النبي صلى الله عليه وسلم مثل كسرى ملك الفرس الذي ذهل لجرأة الرسول صلى الله عليه وسلم في بعثه برسالة يدعوه فيها إلى الإسلام.
ومزق الرسالة التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إليه فدعا عليه بتمزيق ملكه كل ممزق وقال: (اللهم مزق ملكه كل ممزق).[7]
وعندما يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملك الفرس نرىكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث برسائله وهو يعتقد أن هذا حق لـه وأن لهذه الرسائل قيمة الدعوة كلها وأنها يجب أن تكون كذلك حتى في نفوس هؤلاء الملوك، فليست الدعوة أقل قيمة من ملك الفرس حتى تمزق دون أن يُمزق هذا الملك كل ممزق.
ولقد كانت قريش من الذين لم يفهموا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فظنت أنه لايريد إلا الحكم- فعرض عليه سادتها أن يكون سيداً عليهم قائلين لـه : (إن كنت تريد سيادة سودناك علينا)[8]. فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم تلك السيادة.
فالحكم ضرورة في تصور الدعوة، ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين لـه ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة. بل يجب أن يسترد بالجهاد والعمل ليكون ولاية شرعية حقيقية وليس مجرد تسلط شخصي أو سيادة فردية دون إمكانيات القيام بالحكم والاستمرار فيه بعد الوصول إليه.
والمثال الذي يثبت هذه الحقيقة هو النجاشي ملك الحبشة الذي دخل الإسلام بنفسه ولم تدخل الحبشة وهو ملكها. لأن إسلام النجاشي وهو حاكم لم يكن معناه إمكانية الحكم بالإسلام.
وكذلك هرقل ملك الروم يود أن تدخل الروم ويبدي تلك الرغبة قائلاً: (يا معشر الروم، هل لكم في أن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي)؟ ولكنه لايزيد شيئاً عن إبداء رغبته الشخصية في إسلام الروم رغم خضوعها لحكمه.
ويجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم وليس في تلك المواجهة دون اعتبار للإمكانيات المادية - أي تهور، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله فقال: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله)[9] لأنه أكد مايؤكده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحاب القوة والسلطان ويزيد عليهم أن الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة وهو يواجه باحتمال واحد وهو الشهادة.
(وكان لـه ساحر) تفيد أن الساحر للملك والسحر للحكم ولم يكن السحر مجرد ظاهرة موجودة في المجتمع بل إنه إتجاه يحكم هذا المجتمع وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع فلابد أنه واقع فاسد قائم بالظلم ومحكوم بالهوى.
فعلى رأسه ملك مبدأه السحر وسلطانه القهر.. فلابد أن المنهج وهم وأن القيادة قهر وأن الفكر خرافة والواقع ضياع وعندئذ يكون الإنسان إما متكبراً لا يعجبه إلا نفسه أو مقهوراً لا يشعر بنفسه.
والذي يجعلنا نفهم ذلك من البداية هو أن الحكم في أي واقع هو المحصلة النهائية لكل الأبعاد الاجتماعية. كما أنه الصورة الجامعة للتقاليد والإطار المحدد للأخلاق فكيف يكون هذا المجتمع ومحصلة أبعاده وصورة تقاليده وإطار أخلاقه... القهر والسحر؟
وهذه ضرورة الحكم الظالم لأن الحكم بكل أشكاله سيطرة على الواقع الإنساني فإما أن يكون الحكم سليماً فيقوم على بناء كيان الإنسان وصيانته وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يواليه عاقلاً عالماً قوياً. وهذا هو الحكم الإسلامي الذي يرعى الفرد ويقويه، وإما أن يكون الحكم جاهلياً فيقوم على تفتيت كيان الفرد وتشتيت كيان المجتمع لأن الحكم الجاهلي لايريد إلا السيطرة دائماً ولو إلى الدمار وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يواليه غبياً جاهلاً ضعيفاً.
والسحر باعتباره توهم وكذب يحقق أغراض الحاكم الظالم، وأي منهج ليس من عند الله يخضع لـه الناس يحقق نتائج السحر وليس هناك فارق بينهما إلا في الشكل والاسم فالمهم ألا يكون في المجتمع قوة عاقلة أو عقل قوي وهذا ما يتحقق بالسحر وبأي منهج بشري مهما كان لأن أي منهج غير إسلامي يتفق في خصائصه مع السحر. إذ أن السحر تخيل بتأثير عامل الخوف وباستغلال حالة الجهل وأي منهج يتخيل الإنسان أنه سليم بتأثير الإرهاب الذي يُفرض به المنهج من خلال الجهل والضعف يحقق نتائج السحر.
(فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر).
ومن هذا القول نجد نموذجاً لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها وينعمون فيها ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى فكان أول ما قالوا: {إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين} الأعراف (113، 114).
فلم يسألوا عمن سيواجهون وما هي قضيته.. فهذا لا يهم ولكن الذي يهم هو الأجر، غير أننا نلحظ أن الساحر في طلبه للغلام لم يكن يريد منفعة شخصية لأن الطلب جاء لما أحس الساحر بدنو أجله. فلم يكن يريد بهذا الطلب شخصه.
وهنا يبرز معنى جديد وهو أن الساحر - لما كبر - وعاش عمره في تهيئة الواقع للملك مستفيداً ومنعماً لم يصبح الأمر بالنسبة لـه منفعة ذاتية بل أصبح ذاته نفسها التي أحب أن تستمر في شخص الغلام فقد قضى عمره ساحرا ولابد من امتداد لهذا العمر بعمر جديد.. فكان طلبه للغلام، ولكننا لا يجب أن نتوقف عند هذا الحد في تفسير طلب الساحر للغلام إذ أننا نرى الدافع إلى هذا الطلب هو الشيطان القائم على أمر الجاهلية بأجيالها الممتدة، حيث أن الشيطان يملك تجربة الوجود الإنساني كله من بدايته والتي يستطيع بها ربط الأجيال الجاهلية كلها جيلاً بعد جيل ليستهلك تلك الأجيال كلها باستمرار الفساد وبقائه.
وبهذا يجب أن ندرك خطورة الوجود الجاهلي باعتباره وجوداً ممتداً وخطورة التفسير الذي يعطيه الجاهليون لبقائه في أجيال متعاقبة.
فليس الامتداد تعاطفاً بين الأجيال لأن الجيل الجاهلي مفتت ومشتت لا يمكن أن يتعاطف حتى مع نفسه! وأي جيل جاهلي يدعي أنه يعمل للمستقبل الإنساني إنما يكون كاذباً في اختلاقه التعاطف مع أبناء المستقبل كما كذب في اختلاقه جذوراً تاريخية لـه في هذا الواقع الإنساني.كذلك فليس هذا الامتداد الجاهلي (حتمية تاريخية) مفروضة على الواقع الإنساني لا سبيل إلى إنهائها أو تغييرها لأن التاريخ وأحداثه لا يتحقق إلا بقدر الله وحده، والمسلمون وحدهم هم الذين يملكون بعقيدتهم وتصورهم سنن هذا القدر وأسباب تحقيقه وهم وحدهم أيضاً القادرون على إنهاء الوجود الجاهلي إذا التزموا بتلك السنن وأخذوا بهذه الأسباب.
وحينما يقرأ الإنسان هذه العبارة يود لو أنه يستطيع أن يمد ذراعه ليأخذ ذلك الغلام وينجيه من هؤلاء الناس فإنه لا يحزن لشيء أكثر من ضياع الفطرة وإفسادها في مناخ المجتمعات الظالمة. فماذا لو نرى إنساناً يضيع وفطرة تفسد ثم لا نتقدم من أجل حماية هذه الفطرة بأي جهد أو عمل؟
وماذا لو نرى إنساناً قد مات على الكفر بعد أن ولد على الفطرة ولم نكن قدمنا لـه أسباب الهداية والحق؟
والداعية الحقيقي هو الذي يشعر بمسئوليته تجاه الفطرة الإنسانية وحمايتها من أي تأثير جاهلي ويحس إحساساً عميقاً بقيمة تلك الفطرة في واقع دعوته. فالفطرة هي رصيد الدعوة في الواقع الجاهلي وحينما تفسد فلن يكون للدعوة أي وجود أو امتداد وهذا ما قصده نوح عندما دعا بهلاك قومه لما رأى وجودهم في ضلال وامتدادهم في فجر وكفر {وقال نوح رب لاتذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} [نوح: 26، 27 ]
فقد بلغ الضغط الجاهلى بطون الأمهات فأصبحت النساء لاتلد إلا [فاجراً كفاراً]. فعند هذا لا يكون هناك أمل.[11]
(وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه).
وبقدر الله سبحانه وتعالى يلتقى الغلام بالراهب في طريقه إلى الساحر بصورة عجيبة فقد قعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ولكن القعود قبل السماع لم يذكر لـه سبب، ولم يكن هذا سهلاً على نفس الغلام فقد كان يتعلم السحر من الساحر والدين من الراهب بما بينهما من تناقض. فالدين حقائق واضحة وفكر منظم والسحر ضلالات غامضة وكذب ملفق، والدين يربي العقول والسحر يغتالها، والدين يعالج الواقع والسحر يضلل عنه، والدين يبني الحياة والسحر يهدمها ولهذا كان صعباً على الغلام أن يستمر في تلقيه الدين والسحر باطمئنان ولكنه يجلس إلى الراهب راغباً وإلى الساحر كارهاً.
(فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب).
وتلمح من النص أن الغلام كان على إصرار في القعود إلى الراهب لأنه كان يقعد إليه كلما أتى الساحر، رغم أن الساحر كان يضربه كلما تأخر عنه.
وهذا الضرب يمثل بالنسية للغلام بلاءاً وامتحاناً إذا راعينا أنه غلام صغير.
ولكن الله تبارك وتعالى يريد أن يتربى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقاً مع طبيعتها لأن هذا الغلام سيكون منطلقاً أساسياً لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس إليها.
لذا كان لابد من أن يكون شخصية متكاملة بمعنى التكامل الشخصي للدعاة والذي لا يتحقق ولا يتم إلا بالاستعداد للبلاء والصبر عليه عندما يقع.
فطبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.
وبذلك أراد الله تبارك وتعالى أن يتفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة وأن لا تشذ شخصيته عن تكاليفها فابتلاه الله في لحظات التكوين ووقت النمو وفترة التربية فصدق وصبر.
ولكن الغلام يشتكي إلى الراهب هذا البلاء شكوى الذي يعاني من مشكلة تعوق انطلاقه واستمراره ولم تكن شكوى الذي يقدم المعاذير ليتخلى ويتراجع، والحاسة السليمة للدعاة هي التي تكشف علة أي شكوى.
ولما كان الأمر كذلك كان لابد أن يعالج الراهب لـه مشكلته وهذا واجب تفرضه الدعوة على الدعاة ليمهدوا الطريق أمام من يستجيب لهم. ولقد بين الله سبحانه قيمة هذا التمهيد حينما أمر موسى بالذهاب إلى فرعون فعرض موسى مشاكله على الله سبحانه وتعالى فقال: {ولهم علىّ ذنب فأخاف أن يقتلون }[12] [الشعراء: 14] .
و{قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً قال قد أوتيت سؤلك يا موسى} [طه:25-36].
وكذلك لما بعث الله نبينا عليه الصلاة والسلام حيث يقول: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وإن الله ابتعثني في قريش قلت: يا رب إذن يثلغوا رأسي ويذروه خبزاً قال: قاتل بمن أطاعك من عصاك وابعث جيشاً نبعث خمسة أمثاله وأنفق فسننفق عليك)[13] وواضح من النص كيف عرض النبي صلى الله عليه وسلم مشكلته على ربه ومخاوفه من قريش كما عرض موسى مخاوفه من آل فرعون وكيف طمأنه الله سبحانه كما طمأن موسى.
وبضرورة تمهيد طريق الدعوة أمام السالكين لـه فإن الراهب يقول للغلام: (إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر).
ومن قول الراهب تتبين لنا نظرته إلى الواقع فقد كان يعتبره "دار حرب" ولهذا أجاز لغلامه أن يكذب إذ أن الكذب لا يجوز إلا في ثلاث حالات كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يحل الكذب إلا في ثلاث يحدث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس)[14]. والحرب هي الحالة التي كان الراهب يعتبر نفسه عليها مع المجتمع الذي يعيش فيه.
ولتوضيح فكرة جواز الكذب في هذه الحالات الثلاث التي جاءت في الحديث نجد أن الجواز جاء بتلك الصيغة « إن الله أجاز »[15] فالجواز هنا ليس أساسه أمر أو إباحة مطلقة ولكنه إباحة مقيدة بحالات محددة.
والذي يقوم على توضيح الأمر بعد ذلك هو الحالة التطبيقية التي وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت في غزوة الأحزاب: عن نعيم بن مسعود الغطفاني، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بماشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة).[16]
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي لكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم. فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه فقالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً وبأنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم. فاكتموه عني، فقالوا: نفعل، قال تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكموهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم. فإن بعث اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال: فاكتموا عني قالوا: نفعل فما أمرك؟ ثم قال لهم ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم وبذلك أوقع بينهم وانتصر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك عليهم.
وليحذر كل من يمارس الدعوة من الخروج عن حدود النصوص التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب حتى لا تتسرب تلك الصفة إلى طبيعته فيكتب عند الله كذاباً ويفقد أقوى إمكانيات التأثير على الناس إذ أن الثقة في الداعية هي باب الإيمان بالدعوة وأساس التحرك فيها ولهذا فإن أول كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كانت لتأكيد أساس الثقة فيه فقال: « هل إذا قلت لكم أن الجيش مصبحكم. هل تصدقوني قالوا: نعم لأننا لم نجرب عليك كذباً قط قال: إني نذير بين يديّ عذاب شديد ».[17] ونعود إلى الغلام في مرحلة البلاء .
ودائماً..مع شدة البلاء والأذى تظهر الآيات التى تعين على الصبر وتطمئن النفوس: « فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل! فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فقتلها ومضى الناس ».
وهنا نكتشف أن الغلام كان قلقاً لتلقيه من الراهب والساحر في وقت واحد ولقد كان من الممكن أن يستمر الغلام في تلقيه للدين والسحر دون قلق إذا كان يسمع للراهب والساحر بدون شعور أو تفكير لأن السماع حينئذ سيكون مجرد اً من التأثر وسيصبح الدين والسحر عند الغلام مجرد فكر وكلام ولكن القلق الذي نشأ في نفس الغلام كان بسبب تأثره العميق بكلام الراهب وإدراكه السليم لمعنى الدين.
ومن هنا ندرك الصعوبة الكبيرة التي يعانيها المسلم الأصيل في مواجهة الواقع الفاسد وندرك أن الأصالة الإسلامية لابد أن تحرك المسلم لتحديد موقفه كما فعل الغلام. وليس سبب القلق أن الراهب والساحر كانا في نظر الغلام سواء ويريد أن يطمئن إلى أحدهما، ولكنه كان يطلب اليقين من الواقع بعد اليقين بالفطرة في صدق ما عليه الراهب لأنه كان يطمئن إليه بدليل أن الغلام لما أراد الدعاء الذي سيتحقق به الاطمئنان فعلاً قال: « اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك منه أمر الساحر » لنفهم أن البدء بذكر أمر الراهب قبل الساحر يعني أنه يريد أن يرتبط إيمانه بالراهب، وكذلك نجد أن الغلام قال: (اللهم) وهذا بلاشك ما تعلمه من الراهب ويكون هذا معناه أن المقياس الذي أراد الغلام أن يفاضل به بين الراهب والساحر هو من عند الراهب وبتعاليمه مما يدل على أن حقيقة الدين استقرت في ضمير الغلام وملأت عقله وكيانه.
ويدل طلب الغلام لليقين -من خلال الواقع - بفضل الراهب على الاتجاه الذي يريد الغلام أن يأخذه بدينه. لأنه كان يريد أن يتحرك به في حياة الناس. وسيواجههم بما يؤمن به مواجهة واقعية عملية فلابد أن تبدأ هذه المواجهة بيقين من خلال هذا الواقع فليست الدعوة في نظر الغلام مجرد فكرة واقتناع شخصي بها ولكنها فوق ذلك واقع يتحقق بالقَدَر الذي يسير به الوجود.
ولقد أحسن الغلام في طلبه لليقين لما اختار حادث الدابة التي تسد على الناس الطريق إذ أن هذا الحادث وما تم فيه يعتبر بحق تجربة كاملة للدعوة بجوهرها وأبعادها كما تتضمنه التجربة من خلال القصة كلها.
فهناك دابة تسد على الناس طريق سيرهم تمثل في إحساس الغلام أي طاغوت يسد على الناس طريق هدايتهم. فيأخذ حجراً ليكون سبباً للقدر الإلهي في قتل هذه الدابة ويدعو الله مع أخذه بالسبب بأن يقتل الدابة إذا كان أمر الراهب أحب إليه من أمر الساحر فيقتلها ويمضي الناس فيعلم الغلام أن الحق الذي أكده قدر الله بقتل هذه الدابة هو الحق الذي عليه الراهب.
ومعنى استغلال الغلام لموقف الدابة التي تسد على الناس الطريق هو حياة الدعوة في كيان الغلام فهذه الحياة هي التي جعلته يلتقط الموقف بمعناه الكامل وأبعاده النهائية وهذا شأن الدعوة حينما تكون حياة الداعية فينظر إلى كل شيء من خلالها ويفسر بها أي معنى أو حدث لأنها عقيدته وتصوره وواقعه وليست رغبة شخصية قد تتغير أو ميلاً بالفكر قد ينسى.
(... ورجع الغلام إلى الراهب فأخبره). وهذا هو التصرف التلقائي عندما يواجه الداعية موقفاً خطيراً أو حدثاً هائلاً فيذهب متلهفاً إلى من تلقى منه منهج الدعوة ليسمع منه تفسير هذا الموقف بتصور الدعوة (فقال لـه: أي بني أنت اليوم أفضل مني) ولم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفاً عادياً عندما قال للغلام ذلك ولكنه موقف فاصل في حياة كل داعية. فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حباً خفياً للتميز باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس.
ولكن هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتماً إذا واجه الإنسان موقفاً يشعر فيه أن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة وأقدر على تحقيق مصلحتها. ولكن الراهب لم يكن من هذا النوع بل كان تقياً نقياً (فقال لـه: أي بني أنت اليوم أفضل مني)كلمات كلها إخلاص وتجرد. فهذا الراهب المعلم كان أصيلاً إذ أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصت نفسه لله تبارك وتعالى؟ فهو لم يكن يعلم ليقال عنه عالم، ولم يكن يدعو ليكون على رأس أتباع؛ ولهذا يفتح الطريق لمن يظن أنه يملك خدمة الدعوة أكثر منه؛ فيجعل من نفسه نقطة على محيط دائرة النمو العقيدي والحركي للغلام فيقول له: (أنت اليوم أفضل مني) وإذا تذكرنا أن الغلام كان صغيراً سناً، وأنه ما التقى بالراهب إلا منذ وقت قريب فإننا ندرك مدى الفهم الصحيح عند الراهب للدعوة؛ فالدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان ولكن بالإيمان والكفاءة والأثر.
وبذلك يمثل الراهب في واقع الدعوة ضرورة القيادة الزاهدة، ويمثل الغلام ضرورة الاستجابة الفطرية.
فالقائد كان راهباً لايريد حظاً من الدنيا، والمستجيب كان غلاماً حديث عهد بالدنيا. فالقيادة الزاهدة والاستجابة الفطرية هي الارتباط الصحيح الذي يبارك الله فيه ليكون بداية البناء وأساسه، وهي المقياس الذي يقبل به أي ارتباط أو يرفض منذ البداية حتى يتم البناء.
وبعد أن رأينا التجرد في قول الراهب. نرى الوجدانية؛ إذ أن الراهب أخبر غلامه بأنه أفضل منه بنفس راضية وبقوله: (أي بني).
وإذا تذكرنا أن العلاقة بين الراهب والغلام علاقة إنسانية ناشئة في مجال الدعوة ونجدها قائمة بهذه الوجدانية نعلم أنه مهما كانت العلاقة الإنسانية في العمل الحركي حاسمة وساخنة فلابد أن لا تنقصها الوجدانية .
وبعد أن رأينا التجرد والوجدانية نرى التربية الحركية الصحيحة . إذ أن الراهب لما ذكر للغلام ميزته أتبعها بالمسئولية التى تقع عليه باعتبار تلك الميزة وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ لأن الإحساس بتكاليفها يجعل الإنسان يعيش في شعور دائم بميزاته فينحرف به ذلك الشعور إلى الغرور ولهذا لما قال الراهب للغلام: (إنك اليوم أفضل مني) قال لـه: (وإنك ستبتلى).
(فلا تدل عليَّ).
وهذه هي فكرة السرية في منهج الحركة التي يعطي بها الدعاة لأنفسهم فرصة لتجميع الطاقات وحشد الإمكانيات.
والسرية من الناحية العملية ضرورة تنشئها ظروف الدعوة وتتحدد ضرورتها بمنهجية الفكر وواقعية الأسلوب الشجاع.
أما من الناحية التاريخية فقد كانت السرية مرحلة أساسية في تاريخ الدعوة منذ بدايتها؛ فهذا نوح أول رسول لأهل الأرض يقول: {ثم إنى دعوتهم جهاراً ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً}[نوح: 9،8].
غير أننا سنذكر مثالاً تفصيلياً بدعوة موسى؛ حيث نشأت ضرورة السرية فيها منذ اللحظة التي ولد فيها.
فإننا نعلم أن فرعون كان يذبح أبناء بني إسرائيل وأن موسى ولد في تلك الظروف فكان لابد من حمايته كإبن من أبناء بني إسرائيل الذين يذبحون، فدبر الله سبحانه وتعالى حماية موسى والتي بدأت بوحي الله إلى أمه: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص:7].
والتقييم الحركي لهذه العملية يبرز الدقة المتناهية التي تمت بها فقد أمر الله أم موسى أن ترضعه لأن الله سبحانه بعد ذلك حرم عليه المراضع كلها حتى تكون رضاعة أمه سبباً في شبعه وقت تحريم المراضع عليه كما أن الله سبحانه جعل اليم يشارك في تنفيذ هذه العملية حتى تنقطع كل الخيوط التي قد يتوصل بها آل فرعون إلى معرفة المكان الذي جاء منه موسى ومعرفة حقيقته فكان أمر الله إلى اليم.
{فليلقه اليم بالساحل} [طه: 39]
وفي الوقت الذي يلتقط فيه آل فرعون موسى من اليم يلقي الله عليه محبة منه.
{وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني}[طه: 39].
ثم كانت المتابعة سراً لموقف موسى بواسطة أخته.
{فبصرت به عن جنب} [القصص:11].
وتكلمت مع آل فرعون دون أن تخبرهم طبعاً أنها أخته: {فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم }[القصص: 12].
دون أن تخبرهم أن البيت المقصود هو بيته، ويعود موسى إلى أمه بالأمان والحماية بعد عملية دقيقة قوية تثبت دقتها وتأكدت قوتها من خلال قول الله: {يأخذه عدو لي وعدو لـه } [طه: 39].
فقد بلغ الأمر أن يسلم موسى إلى آل فرعون ليتحقق لـه النجاة منهم وقد كان هذا تأكيداً لقيمة السرية في حماية موسى بواقعه الفردي.
أما قيمة السرية في حماية واقع الدعوة فتكشفه لنا آيات القرآن ونكتشف بتلك الآيات وجود تنظيم سري دقيق في دعوة موسى ووجود الدلائل المادية عليه.
كان الدليل هو إيمان رجل من آل فرعون: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله} [غافر: 28].
وقد كان الرجل من آل فرعون واستطاع أن يكتم إيمانه مما يدل على أصالة هذا الإنسان وقوة هذا التنظيم ويزداد قرب الآيات القرآنية من واقع فرعون لتكشف لنا إيمان زوجة فرعون نفسه.
{وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتاً في الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين} [التحريم:11].
وذلك دون أن يدري فرعون رغم مافى العلاقة الزوجية من خطورة على الأسرار إذ أنها علاقة إفضاء بالمشاعر والأفكار، ولنا أن نؤكد دقة وقوة هذا التنظيم الذي كان في عهد موسى من خلال امتداده سراً إلى آل فرعون وامرأة فرعون ومن خلال التوقيت الذي كشف فيه الرجل المؤمن عن إيمانه إذ أنه كان الوقت الذي تقرر فيه قتل موسى.
.. ونعود إلى القصة لنجد الغلام قد بدأ دوره.
(وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص ويداوى الناس من سائر الأدواء) وينطلق بدعوته فيسير بالمعروف بين الناس مؤلفاً قلوبهم بالمنافع والخير مؤكداً إنسانية الدعاة وحبهم للبشر ويكون عمله هذا تحقيقاً لقدر الله في حياة هؤلاء الناس ليؤمنوا بعد ذلك من خلال شفائهم ومداواتهم من سائر الأدواء بعد أن يحب الناس القدر الذي يتحقق فيهم باعتباره مداواة وشفاء ويصير حب القدر حباً لله وهو محقق هذا القدر وحباً للغلام وهو سبب هذا القدر وحباً للدعوة وهي حكمة هذا القدر. وقد كان هذا شأن جميع الأنبياء ومعجزاتهم وأوضح مثال على هذا عيسى عليه السلام الذي كانت معجزته كما قال: {وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله } [آل عمران: 49].
وصالح عليه السلام الذي كانت معجزته الناقة التي تشرب ماء القوم يوماً وتعطيهم لبناً وتترك لهم الماء يوماً : {قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} [الشعراء: 155].
غير أنه في معجزة موسى تأكدت بوضوح الأبعاد الكاملة للمعجزة وهي إثبات النبوة، والقيمة الحركية، والنفع الإنساني، فهي التي تأكدت بها نبوته {قال أولو جئتك بشىء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} [الشعراء: 32-30].
وهي أيضاً التي نجا بها موسى ومن معه من فرعون: {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم} [الشعراء: 63].
وهي أيضاً التي ضرب بها الحجر: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم} [البقرة: 60].
فالمعجزة وهي القدر الإلهي الذي يتحقق على أيدي الأنبياء ووسيلة إقناع الناس لم تكن خارقة كونية فحسب ولكنها كانت أيضاً منفعة مادية لكي يعلم من يمارس الدعوة بعد الأنبياء أن الإقناع مهما بلغت إمكانياته لا يكفي دون تقديم الخير للناس ليكون الإقناع بالعقل في الدعوة مع تأليف القلوب بالحب لها، وأن نطاق الدعوة لن يتعدى نطاق المنافع التي يؤلف بها هؤلاء الدعاة قلوب الناس.
وتتحدد العلاقة بين المعجزة والكرامة على أساس أن الكرامة تابعة للمعجزة لتبعية الأولياء للأنبياء ولذلك يقول ابن تيمية في أنواع الكرامة:
« ومنها ما يتحدى بها صاحبها أن دين الإسلام حق كالغلام الذي أتى الراهب وترك الساحر وأمر بقتل نفسه بسهمه باسم ربه وكان قد خرقت لـه العادة فلم يتمكنوا من قتله..
أما الصالحون الذين يدعون إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء.. فهؤلاء إذا قدر أنه جرى على يد أحدهم ما جرى للأنبياء كما صارت النار برداً وسلاماً على أبي مسلم[18] كما صارت من قبل على إبراهيم الخليل أبو الأنبياء.
فهذه الأمور مؤكدة لآيات الأنبياء وهي أيضاً من معجزاتهم ما تقدمهم من الإرهاص » ا.هـ.
ولما كان الغلام من أمة عيسى عليه السلام كانت كرامته من جنس معجزة نبيه حيث كانت المعجزة التي هي {وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله} [آل عمران: 49].
وكانت كرامة الغلام أن(كان يبرىء الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء).
وعندما كان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء كان بنشىء تياراً مرتبطاً بكيان الإنسان وهذا هو الأسلوب الصحيح للدعوة في مثل هذا المجتمع الذي يبدد السحر فيه طاقة الفكر وقوة الذهن.. لأن الناس كانوا في حاجة إلى الإحساس بالواقع وإحساس الإنسان بكيانه هو قمة الإحساس بالواقع. ولهذا كان تأثير الغلام مباشراً في هذا الكيان من خلال المداواة والشفاء بإذن الله، ومن هنا نعلم لماذا كانت مواجهة سحرة فرعون بعصا موسى عندما تحولت إلى حية. {تلقف ما صنعوا} [طه: 69] فآمن السحرة لأنهم رأوا الحية {تلقف} فعلموا أنها واقع فضاع تأثير السحر.
وهكذا حدد الغلام قضية دعوته وربط تلك القضية بواقع الناس وألف قلوبهم عليها. فأصبح للدعوة تياراً قوياً امتد إلى كل مجالات المجتمع.
وحتى هذه اللحظة لم يكن الملك قد علم بخبر الغلام وهو الأمر الغريب حقاً. حيث أن الغلام لم يكن بعيداً عن دائرة الملك، لأن الملك هو الذي أتى بالغلام إلى الساحر، ولأن الغلام كان في مرحلة إعداد ليكون ساحراً للملك.. وأيضاً لأن الغلام كان يتحرك في المجتمع بصورة علنية واسعة ولكن الله قدر أن لا يعلم الملك بخبر الغلام إلا من خلال هذا الجليس وبعد أن أصبح للدعوة تيار قوي. وهذه كانت مرحلة البداية.. وبداية كل دعوة مرحلة قدرية خالصة تتحقق فيها حماية الدعوة بصور متعددة.. عندما لا تملك الدعوة أسباب الحماية المادية فكانت صورة الحماية في دعوة الغلام هي الستر والإخفاء رغم الوضوح والعلانية والحركة الواسعة.
(فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني).
ويرد الغلام على الجليس مبيناً لـه أنه ليس هو الذي يشفي ولكنه الله سبحانه وتعالى فيقول: (أنا لا أشفي ولكن الله هو الذي يشفي) ويتجاهل الغلام الفكرة التي عرضها الجليس- فكرة الهدايا- والتي لم تنل من إحساسه شيئاً ويقول لـه: (إن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك) وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان الذي طلبه الغلام في تصور الجليس لأن شفاؤه سيكون بهذا الإيمان ولأن الأمر بالإيمان كان بديلاً للهدايا والمادة التي تنال من نفوس الناس تقديراً واعتباراً فانعكس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبه الغلام (فآمن الجليس فشفاه الله).
وعندما قال الغلام: (أنا لا أشفي أحداً ولكن الله هو الذي يشفي) إنما أكد بذلك عقيدته من خلال المنفعة التي قدمها للجليس. وهذا هو الأساس الأول الذي تقوم عليه فكرة تأليف القلوب في الدعوة إذ أنه يجب أن ترتبط المنفعة المقدمة بالعقيدة المعروضة وهذا الارتباط هو الذي سيعطي لتلك العقيدة قيمتها في نفوس الناس ابتداءاً. فهناك فارق بين تقديم المنفعة لمجرد المنفعة والمنفعة لتأكيد العقيدة، وهذا موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لنا هذا الفارق. حين جاء إليه رجل يطلب مالاً فقال لـه: (خذ ما بين هذا الوادي)[19] فقال الرجل: أتهزأ بي؟ قال: (لا)، فأخذ الرجل كل الإبل التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يترك شيئاً، دون أن يمنعه أحد، فلما اقترب من قبيلته قال: يا قوم أسلموا فقد جئتكم من عند من لا يخشى الفقر[20]. فقد قصد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيه المال كله ففكر الرجل في هذا التصرف ففهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخشى الفقر وكان هذا الفهم هو الدافع الأول لإسلامه ودعوة قومه بعده إلى الإسلام.
والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار قضية عقيدية حية في واقع المجتمع الجاهلي ليعالجها في صورة المنفعة المادية وهي مشكلة خشية الفقر ولذلك كان الأسلوب مؤثراً والتأثير بالغاً في نفس الرجل الذي كان يعاني مع غيره من تلك المشكلة. وعندما قال الغلام: (إن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك) فإنه يكون قد استغل حاجة الجليس إلى الشفاء فعرض عليه الإيمان قبل أن يدعو الله فيشفيه.
وهذا أساس آخر في تأليف القلوب لأن الإنسان عندما يضطر ويحتاج، يكون أقرب إلى الله من أن يكون مستغنياً.
ولقد سار يوسف بهذا الأسلوب في دعوته عندما احتاج إليه صاحباه في السجن لتفسير رؤيتهما فعرض دعوته عليهما قبل تلبية حاجتهما.
{قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آباءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 37- 40].
ثم بعد ذلك يفسر لهما الرؤيتين : {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} [يوسف:41].
وبذلك تكلم يوسف مع صاحبيه عن دعوته في لحظة الاحتياج الكامل لسماعه وهذه هي لحظة التأثير التي صنعها الغلام مع الجليس.
(فآمن الجليس فشفاه الله).
وهكذا في بساطة، (آمن الجليس) لأن حقيقة الإيمان كامنة في نفس كل إنسان ولاينقص إلا أسلوب الدعوة الصحيح الذي يتعامل به الدعاة مع الإنسان لتتكشف تلك الحقيقة بإذن الله.
فهذا هو الجليس يؤمن بمجرد أن يطلب منه الغلام ذلك، وإذا كان إيمان الجليس مثالاً عجيباً في بساطة الاستجابة للدعوة الصحيحة فإن هناك مثالاً أعجب.. وهذا المثال هو إسلام ملكة سبأ مع سليمان والذي سيؤكد لنا أن أساس الدعوة ليس بالكلام الذي تعرض به القضية فقط بل بصحة الأسلوب العملي الذي ينجح في كشف حقيقة الإيمان الكامنة في كيان الإنسان. حتى دون الطلب الصريح أو الدعوة المباشرة ولو بكلمة واحدة فكل ما حدث من سليمان مع ملكة سبأ أنه أدخلها في تجربتين: الأولى لإثبات قوة العقل وكانت بأخذ العرش وتنكيره ثم عرضه عليها وسؤالها {أهكذا عرشك} [النمل: 42].
فأجابت أمثل إجابة فقالت: {كأنه هو} [النمل: 42].
ولم تقل هو لأنه منكَّر ولم تقل ليس هو لأنه هو.
فأدخلها في التجربة الثانية وكانت لإسقاط الغرور عن نفسها: {قيل لها ادخلي الصرح فلما دخلته حسبته لجَّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرَّدٌ من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربِّ العالمين} [ النمل: 44].
وبإثبات الذكاء وإسقاط الغرور تمت الدعوة للملكة وعندئذ قالت: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } [النمل: 44].
وبمثال دعوة الغلام، ودعوة الرسول محمد صلى الله عيه وسلم ودعوة يوسف لصاحبيه في السجن، ودعوة سليمان لملكة سبأ نريد أن يعلم الدعاة أن التعامل مع الإنسان بصورة صحيحة هو الذي سيعطي للكلمة في الدعوة الإسلامية قيمتها ويحقق أثرها.
ولذلك نلاحظ أن الغلام لم ينطق في تبليغه لقضية الدعوة إلا بثلاث عبارات في القصة كلها.
قوله: (.. إنما يشفي الله..) رداً على الجليس عندما طلب الشفاء، ورداً على الملك عندما ادعى أن مايفعله الغلام إنما هو سحر.
وقوله: (...كفانيهم الله) رداً على الملك بعد نجاته من الموت فوق الجبل وفي السفينة.
وقوله: (وأن تقول: باسم الله رب الغلام ) عندما دل الملك على الكيفية التي يستطيع أن يقتله بها.
ولكن هذه العبارات الثلاث تمثل في الحقيقة ثلاث نقاط في خط واحد وهو خط الإثبات العقيدي لقضايا الدعوة من خلال الواقع.
فالله الشافي.. والله الكافي.. والله المحيي المميت.. حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية.
ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها، والحقيقة أن البداية لهذا الخط -كما جاء في القصة -ترجع إلى إيمان الغلام نفسه.. وذلك عندما طلب الغلام اليقين من خلال الواقع فدعا الله أن يقتل هذه الدابة إذا كان أمر الراهب أحب إليه سبحانه من أمر الساحر.
وهذا يعني أن طبيعة التلقي لحقائق هذا الدين واليقين به هي التي تحدد طبيعة الدعوة إليه في خط واحد.
والملاحظة الدقيقة في تحرك الغلام أنه لم يقل للجليس (فلا تدل علي)ّ مثلما قال لـه الراهب وذلك لأن الغلام انتقل بالدعوة من مرحلة السرية إلى المرحلة العلنية بهذا التحرك العلني العام وبدليل أنه كان (يداوي الناس من سائر الأدواء) كل الناس...
وانتقال الدعوة من السرية إلى العلنية يدعونا إلى المقارنة بين المرحلتين من خلال أربعة نواحي:
· أسلوب الارتباط.
· البناء التنظيمى.
· نظام التحرك.
· مدى الإمكانيات.
أما أسلوب الارتباط فإننا نجده في المرحلة السرية ارتباطا فرديا مثلما كان بين الراهب والغلام، ونجده في المرحلة العلنية ارتباطاً عاماً مثلما كان بين الغلام والجليس الذي عرف الغلام لما سمع عنه كما في النص (فسمع جليس الملك).
وأما أسس البناء التنظيمي فقد كانت واضحة في ممارسة كل فرد للدعوة حسب كفاءته فالراهب لم يدخل مجال الدعوة العلني لأنه لم يكن يملك إمكانية التأثير العلني ولم يبق الغلام في مرحلة السرية لأنه لو فعل ذلك لأفقد الدعوة إمكانية هذا التأثير العلني.
ولهذا وضع الراهب فاصلاً تنظيمياً بين الممارسة السرية والعلنية عندما قال للغلام: (فلا تدل عليّ) وهذا الحد الفاصل الذي وضعه الراهب للغلام يشبه إلى حد كبير الفاصل الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري عندما قال لـه بعد إسلامه: (لا تتكلم حتى يظهرنا الله) لأنه لم يزل بعد مستضعفاً وفي مرحلة السرية بدار الرقم بن أبي الأرقم.
ورغم أن أبا ذر الغفاري لم يتحمل معرفة الإسلام والسكوت عليه فذهب إلى بيت الله الحرام. وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وأخذ المشركون يضربونه حتى كادوا يقتلونه، فبرغم هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع فعل أي شيء لأبي ذر وتركه يواجه الموقف بنفسه. ولم تتورط الدعوة في مواجهة لم يأت وقتها؛ حيث أن أبا ذر كان يعلن ولم يأت بعد وقت الإعلان.
وأما عن نظام التحرك فإنه في المرحلة السرية كان محدوداً ولهذا نجد أن اللقاء بين الراهب والغلام كان بمرور الغلام على الراهب وهذا يشبه إلى حد كبير وجود الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة عندما كانت الدعوة في عهدها السري وكان كل من يريد اعتناق الإسلام يذهب إليه في تلك الدار بحيث لا يعلم أحد مكانه.
ولعل أبرز الأحداث التي تحدد أسلوب التحرك في تلك المرحلة هو حادث إيمان أبي ذر الغفاري[21]: (حدثنا المثنى عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلام ما هو بالشعر فقال: ماشفيتني مما أردت فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد[22] فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فرآه عليّ فعرف أنه غريب فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به عليّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله فقام فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان اليوم الثالث فعاد على مثل ذلك فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتنى عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت. ففعل فأخبره قال: فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه فسمع قوله وأسلم مكانه).
أما التحرك في المرحلة العلنية فهو تحرك عام مثلما كان الغلام يتحرك بين الناس (يبرىء الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء) ومثل تحرك الغلام في المرحلة العلنية كان تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة. فكان يغشى الناس في مجالسهم حتى أن عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين أراد أن يحدد تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لـه: (لا تغشنا في مجالسنا ولكن إذا أتى أحد إليك فتحدث معه، فكان عبد الله بن رواحة جالساً مع القوم فقال: لا يا رسول الله بل اغشنا في مجالسنا[23]. وبذلك يريد رأس المنافقين أن يرجع بأسلوب وتحرك الدعوة إلى ما كانت عليه في مكة وهذا ما رفضه أنصار المدينة.
أما من ناحية الإمكانيات فالمقصود بها القدرة على التأثير العلني العام مع القدرة على مواجهة السلطة الجاهلية التي تحاول القضاء على هذا التأثير العلني وهذا ماحققه الغلام عندما كان يبرىء الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء وعندما كانت عنده القدرة على مواجهة الملك منذ لحظة الانتقال إلى المرحلة العلنية إلى نهاية القصة حيث نكتشف أن الغلام كان على يقين بأن الملك كان لا يستطيع قتله حيث قال لـه في النهاية (إنك لن تستطيع قتلي إلا إذا فعلت ما آمرك به).
وبعد المقارنة بين المرحلة السرية والعلنية نعود إلى القصة فنجد الجليس قد أتى إلى الملك فجلس إليه كما كان يجلس من قبل فقال لـه الملك: (من رد إليك بصرك؟ قال: ربي.قال أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله).
وفظيع جداً أن يدعى الإنسان الربوبية لنفسه ولكن كيف يكون هذا الإدعاء؟ فمن خلال دراسة هذه الظاهرة البشعة نجد أن القرآن سجلها على فرعون وعلى الملك النمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربه وهذان يتفقان مع هذا الملك في أمرين هما: الكفر بالله، والملك على الناس.
فبدأ الأمر بكفر الإنسان بالله ومنه الكفر بقضائه وقدره، ومنه ظن الكافر أنه هو الذي يصنع حياته ويصرفها برغبته، وإن كان متسلطاً على الخلق ظن أنه يؤثر بذاته في معيشتهم ويصنع حياتهم فهو يأمر فيطاع ويحكم فيستبد ويتصرف بالهوى دون معارضة أو مراقبة وهو الذي يتصرف في مقدرات الناس دون منازع وهو الذي يعلو في الأرض ويستكبر على الأتباع كما قال فرعون: {أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون} [الزخرف: 51]. وقال: {ما أريكم إلا ما أرى } [غافر: 29]. ثم قال: {ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38].
ولكن المؤمن لايبالي بمثل هؤلاء الناس فيواجههم بقوة وصراحة كما فعل الجليس مع الملك. فقال له: (ربي وربك الله) فنجد في رده نفياً لربوبية الملك المدعاة من خلال إثبات ربوبية الله وحده على الملك حيث إنه ليس هناك رب لرب وبذلك يكون الجليس قد سوى بين الملك والناس في عبوديتهم لله سبحانه ولم يكن الجليس ليستطيع هذه المواجهة إلا إذا خالط قلبه بشاشة الإيمان لأنه حينما يكون ذلك، تكون الثقة والطلاقة والقوة، وهؤلاء هم سحرة فرعون يسجدون لله بعد أن علموا أن موسى رسول الله وليس ساحراً فيهددهم فرعون قائلاً: {فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل} [طه :71].
فيردون عليه قائلين: {فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا} [طه: 72].
وهكذا أيضاً تعامل الملك مع الجليس (فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام)لم يقتله فوراً حتى يكشف بقية الجماعة.
(فجىء بالغلام فقال لـه الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل؟).
الملك الطاغوت يقول: (أي بني) كلمة كلها مكر وخبث وضغط على نفس الغلام، وإغراء لـه بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر وحياة مترفة، ويقول الملك: (قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل؟) وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام، وهذا ما يصنعه الذين لايريدون الاعتراف بالحق فيفسرونه بأي شيء غير الحق، وهذا ما فعله فرعون لما هزمه موسى فقال: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} [طه:71].
.. ولما ناقشه موسى في قضاياه ومسلمات حياته بجرأة وحزم: {قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27].
وهذا مافعله أيضاً المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما رأوه ينفي الألوهية عن أصنامهم بجرأة وقوة قالوا: {معلم مجنون} [الدخان: 14].
ولما رأوه يواجههم بالبلاغة القرآنية قالوا: {شاعرٌ نتربص به ريب المنون} [الطور: 30].
ولما رأوا الصحابة واثقين في دعوتهم قالوا: {غر هؤلاء دينهم} [ الأنفال: 49].
والملاحظة الدقيقة في تفسير أصحاب الباطل للحق بغير الحق هي شرط أن يكون هذا التفسير مقبولاً عند الناس.
ومن هنا كان تفسير المعجزة بالسحر والجرأة بالجنون والبلاغة بالشعر والثقة بالغرور ولذلك عقدت قريش مؤتمراً نراها فيه تحاول محاولة دقيقة للاتفاق على الوصف الذي سيصفون به الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن بحيث تراعي فيه هذه الشروط.
قالوا: نقول : كاهن؟ قال: لا والله،ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: نقول مجنون.قال ما هو مجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ماهو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولاعقدهم. قالوا: ما نقول ياأبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن قرعه لجناه، ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وعرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك).
ويفشل الملك في إغراء الغلام ( فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب). ليست خيانة ولا عمالة ولكنها الطاقة البشرية المحدودة. هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، وأي إنسان يقف موقف الغلام عندما دل على الراهب يتألم ألماً أكبر من ألم التعذيب ثم يتضائل أمام نفسه.. ينطوي عليها.. يحتقرها.. يكرهها، ثم يظل يرقب من بعيد نظرة فيها الرحمة، وطلاقة وجه فيها الإعذار، ويد فيها العون، ويكون هذا واجب الجماعة في ذلك الموقف.
ولكن حدوث هذه النتيجة التي انتهى إليها الغلام لا يكون إلا بعد بلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبات وهذا هو الحد الفاصل بين أن يكون المتكلم في محنة التعذيب معذوراً أو مقصراً.
وبلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبت لايكون إلا بمعرفة إمكانية المواجهة الصحيحة لمحنة التعذيب.
وأهم عناصر هذه الإمكانية هي دخول المحنة بالعزم المسبق على مقاومة الانهيار حيث إن دخول مرحلة التعذيب تجعل الفرد في حالة شبه لا إرادية والعزم المسبق هو الذي يحقق المقاومة.
وهذه الحالة أقرب ماتكون شبهاً بحالة النوم فإذا أراد إنسان أن ينام وهو عازم على فعل شيء فإن هذا العزم يكون مؤثراً في حالة نومه فيجعله نومه منشغلاً بالموضوع الذي عقد العزم عليه.
وكذلك الأمر في التعذيب حيث ينشىء العزم المسبق نوعاً من الإرادة ومقاومة الانهيار.
ومع العزم المسبق على مقاومة الإنهيار..
فقد تراود الإنسان نفسه بأن يستسلم، وحدوث هذه المراودة لايعني فقدان هذا الإنسان ثقته في نفسه بل عليه أن يؤجل قراره الداخلي بالكلام أطول فترة ممكنة. وحتى إذا وصل الفرد الممتحن إلى مرحلة الانهيار فيجب ألا يتوقف عن مقاومة الوصول إلى مرحلة الانهيار النهائي.
والمقاومة الدائمة هي أكبر إمكانيات المواجهة.
وأهم العوامل المساعدة على المقاومة هي المتابعة الذهنية عند الفرد لمراحل التعذيب والغرض المحدد لكل مرحلة؛ فمثلاً مرحلة أن يبدأ تعذيب الفرد برؤيته لتعذيب الآخرين - كما فعل الملك مع الغلام- يكون الغرض منها تحطيم العزم المسبق بعدم الكلام.. وجعل الفرد يدخل محنة التعذيب بلا عزم على الصبر والتحمل والثبات، وذلك من خلال استغلال الخوف الذي يسبق الدخول في التعذيب وهذا الخوف أشد من آثار التعذيب ذاته.
وإدراك مثل هذه الأغراض هو الذي يمكن الفرد من تفادي الأثر المطلوب منها.
كما أن وصول الفرد الممتحن إلى مرحلة الانهيار لايعنى هدم كل خطوط الدفاع النفسية.
حيث إن هناك خطاً قوياً يجب الانتباه إليه، وهو خط العلاقة النفسية بين الفرد الواقع تحت التعذيب والأفراد الذين سينالهم الأذى بانهياره، فكلما كان الحب قوياً وشديداً كانت إرادة الصبر والتحمل قوية وشديدة أيضاً.
وأساليب التعذيب لا تتجاوز في مجموعها غرض سلب الإرادة ولعل أخطر هذه الأساليب المحققة لهذا الغرض هو الإهانة النفسية.. لإفقاد الفرد كرامته لأن العلاقة بين الكرامة والإرادة علاقة مطردة.[24]
فإذا قويت كرامة الفرد وعزيمته قويت إرادته.
ومن هنا فإن الشعور بالاستعلاء والعزة. من أهم موانع فقد الإرادة والانهيار، فلا يؤثر السب والبصق والركل بالقدم على الاستعلاء والعزة، بل واليقين بأنك تمتلىء عزة واستعلاء بالقدر الذي يمتلىء فيه من يعذبك حقارة ومهانة.
والفزع والترويع هما أخطر آثار التعذيب ولا يبطل هذا الخطر إلا الطمأنينة والسكينة ولا يحقق الطمأنينة والسكينة إلا الذكر {ألابذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] وعلى أن يكون الذكر هو الواجب الأول والدائم على من يقع في محنة التعذيب، كما أن الصيغ المتعددة للذكر تعالج بصورة مباشرة الآثار المتعددة التعذيب.
فدعاء الدخول على ذوى السلطان الظالمين يكون عند لحظة المواجهة الأولى والاستغفار يرفع الذنوب التي قد تكون سبباً في وقوع المحنة، وعندما ترفع الذنوب تذهب أسباب المحنة وتتحقق العافية، ومع الاستغفار يكون دعاء تفريج الكرب.
وكذلك التكبير الذي يحقق الشعور بإكبار الله فيهون التعذيب والقائمين عليه..
وكذلك يهون التعذيب والقائمين عليه برضى الله سبحانه.
وهذا المعنى مأخوذ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف. وفي نهايته (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي)[25].
ولعل من صيغ الأذكار المناسبة لمحنة التعذيب هي الاستعاذة الواردة في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (أعوذ بك أن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم)[26].
لأن الانهيار هو الذي يجر السوء على النفس وعلى المسلمين. وفي النهاية فإن ما يذهب بمحنة التعذيب وكأنها لا تكون هو تذكر عذاب الله وعدم المقارنة بين فتنة الناس وعذاب الله كما في قوله سبحانه: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} [العنكبوت: 10].
حيث لا وجه للمقارنة..
فعذاب الله يلازمه سخط الله والمهانة الحقيقية كما أنه يتضاعف ولاينفع معه الصبر وليس لـه نهاية وليست منه نجاة، وفتنة الناس والإيذاء في الله يحقق رضى الله والعزة لمن يؤذى في سبيل الله. كما أن فتنة الناس تَضْعُف وينفع معها الصبر ولها نهاية ومنها النجاة بإذن الله.
وبعد معالجة مشكلة التعذيب يتقرر حقيقة هامة وهي أن التوكل على الله هو الشعور الذي يدخل به المسلم تلك المحنة، وأن التسليم بقدر الله هو الشعور الذي يتقبل به المسلم نتيجة تلك المحنة حيث إن محنة التعذيب مع ما ذكر من عناصر لمعالجتها هي في النهاية بيد الله وحده.
ولعلنا نفهم من هذا الموقف أن ما بين التوكل الذي ندخل به المحنة والرضى بالقدر الذي نخرج به منها تكون ضرورة التفكير العملي للمحافظة على واقع الدعوة في المرحلة السرية وعدم الارتكاز في ذلك بصفة كلية على إيمان الأتباع. فقد كان من الممكن أن يغير الراهب مكانه حتى إذا ضعف الغلام وأراد أن يدل عليه لا يجده ولكن قدر الله وما شاء فعل.
(جيء بالراهب فقيل لـه: ارجع عن دينك فأبى، فدعي بمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل لـه: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه).
وهذا الذي حدث من الملك مع الراهب والجليس هو الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما شكوا إليه الاستضعاف:
عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر لـه في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)[27].
ومعنى أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث للصحابة دليل على أنه أشد ما يتعرض لـه الدعاة إلى الله من عذاب.
وهكذا يتعامل الظلمة مع دعاة الحق فلا فرصة للمناقشة ولا سبيل إلى الإقناع ولئن كان الملك ظالماً وسبيل بقائه في الحكم هو السحر.
إذن فلا قضية عنده ولا مبدأ، ولهذا لم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا التعذيب والتقتيل، ونلاحظ أن الملك كان حريصاً على أن يرتد الراهب والجليس قبل أن يقتلهما لأن ارتدادهما قتل للدعوة وقتلهما حياة لها ولهذا لم يقتلهما إلا بعد أن عرض عليهما الدعوة ويئس من الاستجابة.
(ثم جيء بالغلام فقيل لـه: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به إلى الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا) وأما هنا فنلحظ حرص الملك الشديد على ارتداد الغلام حتى لا يسبب قتله حرجاً للملك وبلبلة في عقول الناس لأن الغلام كان معروفاً لهؤلاء الناس بأعماله الطيبة وبحبه للخير.
.. هذا من ناحية..
ومن ناحية أخرى فإن الملك أراد أن تخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدث الناس أن الغلام لم يكن على شيء، لأنه ارتد عن دعوته.
ومن ناحية ثالثة - فإن الملك كان طامعاً في أن يستفيد من هذا الغلام في تثبيت موقفه بجعله ساحراً له، وداعياً إلى ملكه طالما أن عنده هذه القدرة العجيبة على أن يشفي الناس من أدوائهم، والذي يؤكد لنا حرص الملك على ارتداد الغلام هو الأسلوب الذي تعامل به معه. فقد أخره عن الراهب والجليس حتى يشهد مصرعهما فيتأثر ويضعف، وكذلك فإن الملك اختار وسيلة غير الوسيلة التي قتل بها الراهب والجليس. وسيلة فيها فرصة للتردد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل، والذي يؤكد لنا أن الملك كان يفعل ذلك بقصد ردة الغلام هو أنه طلب من أصحابه أن يعرضوا عليه الارتداد في ذروة الجبل وقبل أن يقذفوه.
وابتداءاً من تعذيب الجليس ثم تعذيب الغلام ثم قتل الراهب والجليس قبل الغلام: ثم قول الملك للغلام (أي بني) ثم تحديد كيفية معينة لقتل الغلام.. تجدها كلها تصرفات محسوبة ومدروسة..
متى يكون التعذيب؟ ومتى يكون اللين؟ ثم متى يكون القتل؟ وكيف؟ ولهذه التصرفات دائماً هدف واحد محدد هو التخلص من الدعوة إما بارتداد الدعاة أو قتلهم.
غير أن أهم ملاحظة في تجربة القتل والتعذيب واللين هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدين أو المساومة فيه بصيغة المبنى للمجهول (فقيل ارجع عن دينك. ذلك للراهب والجليس الغلام).
وأما القتل فعلاً فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم وهو الملك (فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه)، والسبب في ذلك هو أن المساومة مع أصحاب الدعوة لايتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكن الجاهلية عندما ترغب في المساومة فإنها توكل بها مجهول يساوم خفية لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أما القتل والتعذيب فهو الأمر الذي يتفق مع تلك المهابة بل يزيدها.
ولكن الغلام يدعو الله فوق الجبل ( اللهم اكفنيهم بما شئت).
بأي كيفية يرضاها الله سبحانه وتعالى وبأي سبب يختاره عز وجل فليس التوكل على الله عند المؤمن محدوداً بخبرة الواقع ودراسة الظروف لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته وجوهر معناه انطلاقاً إيمانياً لا يتقيد بضيق الواقع وارتفاعاًَ وجدانياً لا يهبط بشدة الظروف.
وعندما يتحقق التوكل... تتحقق الاستجابة بإذن الله..
(فاهتز الجبل فسقطوا هم وعاد هو سالماً... وجاء يمشي إلى الملك).
وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت.
والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لايعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله.
والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.
وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة. فهي أيضاً الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلاضرورة أومنفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيماً.
(جاء يمشي إلى الملك).
لم تؤثر محنته على منهجه..
لم يحدث التصرف الذي غالباً مايتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر.. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم.. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد ومنهج جديد.
لم يفعل الغلام ذلك بل عاد متمسكاً بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة.. عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها.. نفس الموقف الذي كان فيه.. موقف المواجهة مع الملك.. فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع ولا حتى التأجيل.
ولما ذهب إلى الملك سأله (ماذا فعل أصحابك) ولا يريد الملك أن ينسب الأصحاب إليه لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه فقال: (ماذا فعل أصحابك؟) ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه كما قال النص: (فدفعه إلى نفر من أصحابه).
(قال الغلام: كفانيهم الله) ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام للملك بعد النجاة: (كفانيهم الله).. كان مثل قوله قبل النجاة (اللهم اكفنيهم).
نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل بلا زيادة ولاتغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله أو تصرف تصرفه.
.. ويحاول الملك قتله مرة ثانية..
(فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك. فقال لـه الملك: ماذا فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله)..
إن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل يعتبر نموذجاً لطبيعة تطور المواجهة الجاهلية المادية البحتة في مواجهة دعوة قائمة بقدر الله وحده.
تلك المادية البحتة التى أعمت أصحابها عن قدر الله السافر فوق ذروة الجبل حيث اهتز الجبل فسقطوا هم وعاد هو سالماً.
والتي أودت بأصحابها إلى اتباع الأساليب التافهة الناتجة عن النظر القاصر في المسافة اليابسة بين الجبل والقصر.
كيف لو كانت بحراً.
وكما اهتز الجبل فسقطوا .
انكفأت السفينة فغرقوا.
وعاد هو سالماً..
أحداث ناشئة بطبيعة واحدة، ناشئة عن إرادة إلهية غالبة بتمام الدعوة.
أدرك الغلام هذه الحقيقة.. فجاء يمشي إلى الملك.
ويقين الغلام بعجز الملك عن قتله وإن كان موقفاً خاصاً إلا أنه تضمن حقيقة اعتقادية مطلقة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس في حديثه: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)[28].
ولن تكون الحركة صحيحة إلا إذا تحقق في ضمير كل داعية هذا الاطمئنان الذي كان عند الغلام.
فقال للملك: إنك لن تستطيع قتلي إلا إذا فعلت ماآمرك به.
ونرى في كلمات الغلام شيئين .. إثبات عجز الملك.. والأمر الذي سيأمر الملك به.. ولعل هذا أول أمر يتلقاه الملك في حياته ويجد نفسه مضطراً إلى تنفيذه.
وبذلك ينهي الغلام ادعاء الربوبية الذي يدعيه الملك بإثبات عجزه واضطراره إلى تنفيذ الأمر الذي يصدر إليه.
ولقد حرص الغلام على إنهاء هذا الإدعاء في ذلك الموقف لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الإدعاء الفظيع.
ويكون الأمر هو (أن تجمع الناس في صعيد واحد) حتى يشهدوا الأحداث ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامره بهذا الأمر لأنه يعلم أن مثل هؤلاء الحكام يخفون الحقائق التي تفيد الناس وتساعدهم على الإيمان ومعرفة الحق.
وهذا هو ماقصده موسى عندما طلب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة: يوم اجتماع الناس {يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى} [طه: 59].
ويستمر الغلام في إصدار الأوامر إلى الملك العاجز (وتصلبني في جذع شجرة) حتى يكتمل ضعف الغلام في إحساس الناس فيكون غلاماً صغيراً مصلوباً في جذع شجرة،حتى يسهل على الناس الانطلاق بإحساسهم نحو الإيمان بالقوة التي قهرت الملك والتي تقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب.. قوة الله رب الغلام.
(ثم تأخذ سهماً من كنانتي ) واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو؛ فيكون سبب القتل من عنده وتتأكد رغبته في القتل.
(ثم تضع السهم في كبد القوس) ولقد كان من الطبيعي أن يوضع السهم في كبد القوس ولكن الغلام جعل التصرف الطبيعي تنفيذاً لأمر منه حتى لايتحرك الملك أي حركة من تلقاء نفسه ليكون خضوعه كاملاً ونهائياً لأوامر الغلام التي جعلها الله صياغة لإرادته هو سبحانه.
(ثم قل بسم الله رب الغلام) وبهذا يكون الغلام قد أعطى للناس تفسيراً للموقف فيكون قتله رغبة منه وسبباً من عنده.. يتحقق بقدر الله بعد أن عجز الملك.
ويستجيب الملك لأوامر الغلام استجابة الضعيف المضطر فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: (بسم الله رب الغلام).
استجاب الملك لأوامر الغلام لأنه وجد نفسه أمام ثلاثة أمور: إما أن يترك الغلام يدعو بدعوته كيفما شاء.. وكان هذا الحال سينتهي بإيمان الناس. وإما أن يستمر في تأكيد عجزه عن ذلك وتتأكد للناس قوة الله الذي يحمي الغلام وكان هذا الحال أيضاً سينتهي بإيمان الناس.
والأمر الثالث وهو ما اختاره الملك، والذي انتهى بقتل الغلام وأيضاً آمن الناس، فقد أراد الله أن يؤمن الناس وأن تعلو كلمته وقضى بذلك سبحانه وحكم ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. وعلى أساس هذا الموقف نفهم قول الله الذي جاء في سورة البروج: {والله من ورائهم محيط} [البروج: 20].
(ثم رماه في صدغه[29] فوضع يده في صدغه فمات) وهذه العبارة تتضمن حقيقة قدرية هائلة.. حقيقة الربط بين السبب والنتيجة وهي لحظة الفرق بين الضرب بالسهم وموت الغلام حيث تقول العبارة (ثم رماه فوقع السهم في صدغه..).. فلم يمت..لم يتحقق ربط السبب بالنتيجة.. (فوضع يده في صدغه ..).. (فمات).
وقد كانت هذه الحقيقة القدرية الأخيرة التي تتحدد بها العلاقة السبب والنتيجة. سبقها عدة حقائق.
ففي القصة النتيجة التي تتحقق بعكس مقصود البشر من السبب فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال. يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب ويجلس إليه ويسمع منه ويعجبه كلامه.
وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط.. مثلما قتل الغلام الدابة التي كانت تسد على الناس الطريق بحجر صغير.
وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك ووقوع ما كان يحذره بسبب هذا الغلام الصغير.
وفي القصة المختلفة بالسبب الواحد وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل فرجف بهم الجبل وجاء إلى الملك وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك.
ومن مجموع هذه الحقائق نفهم من سورة البروج قول الله سبحانه : {فعال لما يريد} [البروج: 16].
لأن هذه الآية هي حقيقة كل الحقائق.
ولقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: (بسم الله رب الغلام) وبهذه الكلمة فتح الغلام للناس باب الإيمان. فقد كانوا يعرفونه محباً لهم وساعياً لمنفعتهم ومداوياً لأدوائهم وما بقي إلا أن يعرف الناس أن للغلام رباً هداه إلى محبتهم وأذن لـه بشفائهم.
باسمه تحقق عجز الملك وباسمه سيموت الغلام راغباً من أجل إيمانهم وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك. فبعد أن كان يدعي الربوبية ويعذب ويقتل من لا يدَّعيها لـه، يقول في النهاية بنفسه.. (باسم الله رب الغلام).
ولذلك لم يكن الغلام خائفاً من أن تنعكس رؤية الناس لـه وهو يموت خوفاً من الملك بعد قهره بهذا الموقف.
كما أن الغلام لم يكن خائفاً لأنه استطاع أن ينشئ تعاطفاًكاملاً لـه في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك وبموقف الموت ذاته حيث تحدد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جذع شجرة وبين الملك الظالم.
وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور وبدأ التعاطف مع الغلام الداعية بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف.
غلام صغير يحب الناس ويقدم بهم المنافع والخير.. يموت برغبته من أجلهم.. بعد أن أثبت عجز الملك وضعفه من أجل أن يؤمنوا بالله رب الغلام.
واستجاب الناس.. فاندفعوا من كل مكان بلا خوف يرددون نداءات الإيمان (آمنا برب الغلام).. (آمنا برب الغلام).
ففي لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل..
وفي لحظة العزة بعد القهر والذل..
وفي لحظة القوة بعد الوهن والضعف.. يؤمن الناس.
(فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله وقع بك حذرك).
وتغيرت ملامح المجتمع وأنهت الجماهير ادعاء الحاكم الكاذب فجاء إلى الملك من يقسم لـه بالله على هزيمته وعجزه ويقول له: (قد والله وقع بك حذرك).
(فأمر بالأخاديد في أفوه السكك فخدت وأضرم فيها النيران).
ورغم هذا لم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق وفي كل السكك وواصلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران.
وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: (من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أوقيل لـه اقتحم) ليقاوم كل إنسان بنفسه حب البقاء في نفسه فيكون أقل مقدار للضعف كافياً وسبباً للارتداد وقد كانت هذه الفكرة آخر ما أفرزته رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر. ولكن الإيمان أبطل أثرها، وعالجت قوة الاندفاع الأصيل إلى الموت أثر أي ضعف كان كامناً في النفوس.
ويلتقط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لمعالجة الإيمان لإحساس التعلق بالحياة فيه (جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: ياأمه، اصبري إنك على الحق).
جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية لم تفصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود واشتعلت مشاعر الأمومة وكراهية الموت فيها فترددت أن تقع بابنها ولكن الطفل يطفئ في إحساس أمه لهيب النار ذات الوقود لتلقي بنفسها وتنجو من الضعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود. قصة الانتصار للحق.
وتبقى مشاهد العذاب وأخاديد النيران بشررها المتطاير ولهيبها ترتفع ألسنته بأجساد المؤمنين الطاهرة. ويبقى أثر تلك النار في قلب كل مؤمن استضعافاً في الأرض وجاهلية في الحياة ترتفع ألسنتها كلما استشهد شهيد في سبيل تلك الدعوة من أجل التمكين لها في الأرض وهذه الحياة.
وفي ذلك جاء قول الله تعالى: {والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على مايفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} [ البروج].
[2] - رواه البخاري في باب (ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه من المشركين بمكة) ص (315/12) في كتاب الإكراه باب "من اختار القتل والضرب والهوان على الكفر".
[3] - أخرجه أحمد في المسند [3980/6] من طريق وكيع بن الجراح عن أبيه عن أبى إسحاق عن معدي كرب الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ووالد وكيع فيه كلام, وأبو إسحق هو السبيعي اختلط, ومعدي كرب لم يرو عنه غير أبى إسحق - فيما علمت- وسكت عنه البخاري في التاريخ (41/8).
ومع هذا فقد جوده الحافظ السيوطى في الدر المنثور (82/5) وصححه الشيخ شاكر في شرح المسند رقم [3980].
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (84/7): (رواه أحمد ورجاله ثقات, ورواه الطبراني).
تنبيه: المراد من (طسم المائتين): سورة الشعراء لا سورة القصص يدل على ذلك أمور:
منها: أن المائتين هي الشعراء لأنها (227) آية بينما القصص (88) فقط.
ومنها - أن الهيثمي في مجمع الزوائد (84/7) بوب لها(سورة طسم الشعراء).
ومنها - أن السيوطى ذكره في الدر المنثور تحت سورة الشعراء .
ومنها - أن السيوطي حين ذكره، ذكر لفظ أبي نعيم في الحلية وفيه: نسأله عن طسم الشعراء.
ومنها - أن الشيخ شاكر شرحه مبيناً أن المراد سورة الشعراء لا القصص.
نعم ذكره الحافظ ابن كثير عند سورة القصص وكرره السيوطي في سورة القصص.
[4] - أخرجه مسلم في (الزهد والرقائق) (130) واللفظ لـه وهو عند أحمد أيضاً (17/6), والترمذي في التفسير رقم [340] والنسائي في التفسير أيضاً كما فى تحفة الأشراف (199/4).
[6] - أخرجه البخاري في (بدء الوحي) - وفي مواضع- (31-33/1) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب, وأخرجه أحمد (262/1).
[8] - أخرجه أبو يعلى في مسنده (349/3) وعبد بن حميد رقم [1123] وأبو سعيد في دلائل النبوة رقم [182] من طريق الأجلح عن الذيال عن جابر وسنده ضعيف من أجل الأجلح, وانظر مجمع الزوائد (20/6) وابن كثير سورة فصلت والحديث حسنه الألباني.
[11] - وقد جاء طلب الساحر - في رواية الترمذي - بعبارة (انظروا إلي غلاماً فَهماً أو قال: فَطناً لَقناً فأعلمه علمي) وهذا يكشف بُعداً خطيراً للخطة الجاهلية الرامية إلى إفساد الفطرة وهي التركيز على النابهين المتفوقين أصحاب المواهب والقدرات الخاصة لضمان السيطرة الجاهلية على الواقع البشري.
[12] - ولذلك جاء في تفسير الآيات {قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} قول ابن كثير هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه.
[13] - انفرد به مسلم فأخرجه في (صفة القيامة) (196-197/17) عن عياض بن حمار وكذا أحمد في المسند (162/4).
[14] - أخرجه الترمذى رقم [1939]. من حديث أسماء بنت يزيد وهو عند أحمد (404/6) من حديث أم كلثوم بنت عقبة وسنده صحيح بمعناه في الصحيحين البخاري في الصلح (299/5) ومسلم (157/16).
[15] - كما في رواية الصحيح. ولذلك ذكر الإمام النووي في شرح مسلم باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام, وقال هذا الحديث فيه إثبات كرامة الأولياء وفيه جواز الكذب في الحرب ونحوها وفي إنقاذ النفس من الهلاك سواء نفسه أو نفس غيره ممن لـه حرمة وذكر فتح الباري شرح صحيح البخاري قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة إنما هي المخادعة لا المواجهة وذلك لخطر المواجهة وحدوث الظفر مع المخادعة بغير خطر.ت: الجهاد 158.
قال ابن العربي في فتح الباري: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنهي رفقاً بالمسلمين لحاجاتهم إليه وليس للعقل فيه مجال.
فقد ورد في البخاري كتاب الجهاد 157, المناقب 25, الاستتابة 6 ومسلم في الزكاة 153, جهاد 19,18, وأبو داود في الجهاد 92 وفي السنة 38 والترمذي في الجهاد 5 وابن ماجة في الجهاد 28 والدارمي في السير 13 وأحمد ج 6,3,2,1.
[21] - أخرجه البخاري في المناقب (173/7), ومسلم (32/16) شرح النووي كلاهما من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.
والمثنى: هو ابن سعيد عن أبي جمرة عن ابن عباس, والقائل حدثنا المثنى هو: ابن مهدي.
[23] - أخرجه البخاري في (المرضى) (122/10) وفي الأدب (591/10) وفي الاستئذان (39,38/11) من حديث أسامة بن زيد.
[25] - أخرجه الطبراني في الكبير كما في (مجمع الزوائد) وقال الهيثمي (35/6): (رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة). قال الألباني في فقه السيرة: أخرج هذه القصة ابن اسحق بسند صحيح عن محمد ابن كعب القرظي مرسلاً ولم أجد في الطبراني الكير مسنداً لعبد الله بن جعفر.
[27] - أخرجه البخاري في (الإكراه) (316,315/12) من حديث خباب رضي الله عنه. والحديث عند أبى داود في الجهاد والنسائي والمسند وغيرهم.
[28] - صحيح: أخرجه الترمذي في (صفة القيامة) رقم [2516] وأحمد في مسنده [2669] من طريق حنش الصنعاني عن ابن عباس وسنده صحيح, كما صححه الترمذي نفسه وأقره النووي في الأربعين (الحديث 19), وأخرجه الحاكم (541/3) بسند فيه متروك ومختلف فيه وانقطاع آخره والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.